فإن الذكرى تنفع المؤمنين

الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

   انقضت سنة أليمة على حملة القرآن والعلم، والدعوة والفكر، والثورة والدين من أهل الإسلام والمسلمين، بعد فاجعة اختطاف واغتيال العلامة الشيخ د. نادر السنوسي العمراني، مع من تقدمه من الشهداء المغدور بهم في بلادنا، رحمهم الله جميعا رحمة واسعة، وآجرنا في مصيبتنا ، وأخلف علينا خيرا منها.

   لقد بكى الأحبة والمظلومون، وأبَّن الخطباء، ورثى الشعراء، ونعى الإعلام الحق، واتضحت الخسارة الفادحة للإسلام والمسلمين، وفُضحت وسائلُ التخريب وأدواته الطاحنة، ولكن شيئا من التصدي للخطر الداهم لم يتم بتحقيق أو قبض، أو إصدار أحكام تحفظ الدماء والحياة، وتعصم الأنفس وتكبت الجناة، بل نرى العدوان يتواصل بالاختطاف والقتل وإلقاء الجثث, والسفاحون تطالب بهم العدالة الدولية، ولا أحد يحرك ساكنا؛ فمصادر الشر الخارجية ما تزال تغذي عناصرها، وتوسع دوائر كيدها، فلم يعد يكفيها أن تدمر ليبيا واليمن وسوريا، بل تحاصر غيرها، وتسقط الدول والحكومات، وتوطد مع الكيان الغاصب العلاقات، وهو يمنيهم بمواعيد عرقوب، ليحرق بهم دولهم وشعوبهم وأهل السنة من المسلمين.

   فاللهم رحماك رحماك، ويا أرباب السيف والقلم، والسياسة والعلم؛ إن العدو شرس، والخطر ماحق، والشر مستطير؛ فوحدوا رؤاكم، وأجمعوا كلمتكم على عصمة الدماء، وحرمة الديار، وصيانة الأموال، وحفظ الإسلام واتباع سلاطين العلماء لا علماء السلاطين، وتكثير سواد المسلمين، وتكثير سواد المسلمين، وتكثير سواد المسلمين، فقد أهلكَنا الإسقاط، والهجران، والتفسيق، والتضليل، والتكفير، فالذكرى تنفع المؤمنين, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.    

  ولنذكر بعض ما قلته خلال الشهور الماضية في موقع المعهد العالي للعلوم الشرعية عن فقيد السنة والجماعة، رحمه الله.

 

فقيد السنة

   فقدت ليبيا والعالم الإسلامي عالما محدثا، وفقيها مفسرا، ألا وهو د. الشيخ نادر السنوسي العمراني، رحمه الله تعالى. طلب العلم بإخلاص على أيدي أهله في  وطنه ليبيا وفي الحجاز مهبط الوحي ، وينبوع الإسلام، ومنطلق الدعوة الإسلامية، وبذله لطلابه أداء للواجب الشرعي. فكم شهد له المعهد العالي للعلوم الشرعية, ودار الإفتاء، وجامع الإمام القرافي، وجامعة طرابلس وغيرها من الجامعات والأكاديميات، والفضائيات من صولات وجولات  يشرح فيها و يفتي، ويحدّث فيها ويعلم، ويبحث ويناقش بأدلة ناصعة قوية من الكتاب والسنة.

   انتقل الشيخ – رحمه الله- إلى جوار ربه- بإذن الله – شهيدا ومات حميدا سعيدا، اختطف من أمام المسجد، وهو مقبل على الله –تعالى- لأداء صلاة الفجر، وأشهر في وحوه قتلته كلمة التوحيد بمجرد أن سحبوا عليه أقسام بنادقهم، وأرادوا حرمانه من الصلاة عليه بإخفاء مدفنه؛ فصليت عليه صلاة الغائب في الميادين والمساجد والبيوت ؛ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، وعوض الله الأمة فيه خيرا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

الفقيه اللغوي

   بعض الناس من ذوي الملكات والمواهب العلمية لا يعيرون اهتماما لملكتهم اللغوية؛ فتجدهم يلحنون في كلامهم، ويخطئون في كتاباتهم نحويا وإملائيا، بتجاهلهم الأحكام اللغوية والنحوية والإملائية التي تعلموها في المراحل الأولى من تعليمهم؛ فإذا رأيت أحدا من الناس طلق اللسان، حسن الأسلوب في كتابته، جيد الخط والإملاء فاعلم أنه شديد الملاحظة، واعيا بما يصنع، شديد الاهتمام بعمله، حريصا على تحقيق النجاح ؛فإن قصَّر في إحدى المهارات اللغوية، فلعل ذلك يرجع إلى مواقف في طفولته حالت دون الرقيّ بتلك المهارة، وفقيد السنة الشيخ العلامة نادر السنوسي العمراني-رحمه الله تعالى-كان إلى جانب فقهه الواسع بالأحكام الشرعية والاقتصاد الإسلامي فصيح اللسان، واضح الأسلوب، سليم الصياغة، عاينت ذلك منه في مراجعاته العلمية لبحوث مجلة (الهدي الإسلامي) التي تصدر عن الهيئة العامة للأوقاف والشؤون الإسلامية، واستدراكاته على ما يقدَّم للنشر، ورأيت ذلك منه في مراجعة لمحضر أحد اجتماعات المعهد العالي للعلوم الشرعية حيث رمق لفظ (المشايخ)مكتوبا بالهمزة، فنبَّه، متسائلا في تواضع: أليست الياء أصلية في مفرده (شيخ) فلا تبدل في جمعه همزة؟ عوض الله الأمة فيه خيرا، وأقام في أهل العربية والشريعة من يقوم بمثل ما كان يقوم به. إنا لله وإنا إليه راجعون.

 

العلامة المحقق

    يشيع في عالم الكتابة والتأليف سلوك غريب عند بعض أدعياء العلم، فيسطون على مقالة منشورة في إحدى المجلات، لتقرأها  في مجلة أخرى تحت اسم دعيّ لا يعترف بالأمانة العلمية. ويحدث هذا أحيانا في المؤتمرات العلمية، وفي بحوث الدوريات المحكّمة والرسائل الجامعية؛ وقد يكتشف الدعيّ فيطرد من الجامعة أو يحرم من النشر، وقد يحال السارق على القضاء ليحاسب، ففي إحدى الجامعات العربية اكتشف باحث لئيم سطا على كتاب(النحو وكتب التفسير) لأستاذنا العلامة الشيخ د. إبراهيم رفيدة –رحمه الله- لينال به الدكتوراه، فافتضح وطرد.

    واكتشاف السرقات العلمية اليوم أيسر على أهل العلم، والحمد لله، بسبب التوسع في استخدام الشبكة العنكبوتية؛ ومما أذكره لشيخنا العلامة المحقق د. نادر السنوسي العمراني-رحمه الله- أنه في مراجعته للبحوث المقدمة للنشر في مجلة الهدي الإسلامي يتحرّى أمانة أصحابها في نقولاتهم، ويتحقق من صدقهم في إحالاتهم على المصادر العلمية، وهو ما قاده إلى اكتشاف دعيّ مدسوس في إحدى جامعاتنا تقدم لنشر بحث في المجلة أكثره مسروق. رحم الله فقيد نا رحمة واسعة، وجازاه عن العلم وأهله خير الجزاء.آمين.

 

العلامة العامل

   للطهارة في الإسلام منزلة عالية يعرفها كل مسلم، وذلك لكثرة الأدلة الشرعية عليها كقول الله-تعالى-: " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين" وقول النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام مسلم من حديث أبي مالك الأشعري: "الوضوء شطر الإيمان" الحديث. وكقوله، صلى الله عليه وسلم، في معرفته المسلمين على الحوض   يوم القيامة " يأتون غرّا محجّلين" والغرّة والتحجيل عند علمائنا يكونان في أعضاء الوضوء لمداومة الوضوء. ولا ريب أن فقيد السنة- رحمه الله – كان يعي ذلك، فقد عرفته في المعهد العالي للعلوم الشرعية يجلس في مكتبه لعمله الإداري، أو للمذاكرة، وغير ذلك، وقد لاحظته قبيل منتصف النهار؛ في وقت الضحى يقوم لتجديد وضوئه الذي كأنه صلى به صلاة الفجر ليؤدي صلاة الضحى، وليتهيأ لأداء صلاة الظهر. رحمه الله رحمة واسعة، ورزقنا وإياه محبة رب العالمين لعباده المؤمنين المتطهرين.