لقد قالها الليبيون المخلصون في حبهم لوطنهم، وبكل ثقة وشجاعة: السمع والطاعة لأمر القضاء. وبصرف النظر عن العدالة أو الحيف، والبرهان أو الزيف، وشرف المروءة أو فجور الخصومة، أذعن من تحمل المسؤولية شعورًا منه بالمسؤولية في غياب الطاعنين عليه من المواجهة ديمقراطيًا.
وهذه الواقعة تذكرنا بخبر المرأتين اللتين اختصمتا في أمومة غلام، وكل منهما تدعي أمومته. ولا شك أن احداهما كانت مغالطة للواقع، وأنها كانت مجازفة في دعواها. وكل ما كانت تعوّل عليه صمت الغلام, فهو ليس بمقدوره أن يرد دعواها، وليس في وسع الأخرى أن تأتي ببينة على دعواها. واشتد النزاع والصراخ. أمّ تبكي بحرقة خوفا من ضياع فلذة كبدها غلامها الذي عانت حملة تسعة أشهر بكل أريحية، وهي تمني النفس به لتراه رجلًا يحميها، ويعولها، ثم ترى ذريته تحيط بها وأنفاسهم تتردد من حولها. والأم الدعية تذرف الدموع غزارًا، فليس أيسر على المرأة من الدموع تستذرف بها عطف الآخرين. إنها دموع التماسيح التي تفترس على غرة، وبمكر ودهاء. وفي مثل هذه المواقف، لا شك أن عقل الذكي الألمعي يذهب أدراج الرياح في مواجهة دموع ملتبسة بالحق والباطل، والخير والشر، والبراءة والجرم. ولكن الكاذب مهما احتاط لنفسه يفاجئه القدر بالمكاشفة من حيث لا يتوقع، فكما يقول المثل: من مأمنه يؤتى الحذر. فنبي الله سليمان – عليه السلام – الذي رفع أمر الغلام إليه، وبما علمه الله – جلّ وعلا – يصدر حكمًا غريبًا مفاجئًا للجميع، ألا وهو أن يقسم الغلام بين المرأتين المتنازعتين نصفين. والمفاجأة الكبرى تأتي من الأم الحقيقية حينما تصرخ تلقائيا، وبدافع الأمومة الصادقة بأنها تخلت للأخرى عن الغلام وأنها لا تسمح بتمزيقه.
إنه السمع والطاعة، وفاء للمحبة الصادقة، ورجاء للسلامة من الخطر الداهم، وحرص على النجاة من القضاء المبرم على ما لا يجوز التفريط فيه.